فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا رَفْضُ النِّسَاءِ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ فِي دِينِنَا، كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي: اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ؛ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ.
الثَّالِثُ: سِيَاحَتُهُمْ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْهُ.
الرَّابِعُ رَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قال: قال لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟» قال: قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قال: «أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ».
وَافْتَرَقَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ، وَهَلَكَ سَائِرُهَا: فِرْقَةٌ آزَتْ الْمُلُوكَ، وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ أَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَأَخَذَتْهُمْ الْمُلُوكُ وَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَة بِمُوَازَاةِ الْمُلُوك، وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ، فَيَدْعُوهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ، وَتَرَهَّبُوا فِيهَا، وَهِيَ الَّتِي قال اللَّهُ فِيهَا: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
المسألة الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ، وَأَنَّهُ قال: أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ؛ فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إذَا فَعَلْتُمُوهُ، وَلَا تَتْرُكُوهُ؛ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمْ اللَّهُ بِتَرْكِهَا، فَقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} يَعْنِي تَرَكُوا ذَلِكَ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} مِنْ وَصْفِ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَأَنَّ قوله تعالى: {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} مُتَعَلِّقٌ بِقولهِ تعالى: {ابْتَدَعُوهَا}.
وَقَدْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ فَظَنُّوا أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ الْتَزَمُوهَا، وَلَيْسَ يَخْرُجُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ، وَلَا يُعْطِيه أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ إلَّا بِشَرْعٍ أَوْ نَذْرٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة الحديد:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}.
قوله: {للَّهِ}: يجوزُ في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ كهي في (نَصَحْتُ لزيدٍ) و(شكرْتُ له) إذ يقال: سَبَّحْت الله تعالى. قال تعالى: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. والثاني: أَنْ تكونَ للتعليلِ، أي: أَحْدَثَ التسبيحَ لأجلِ الله تعالى.
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)}.
قوله: {لَهُ مُلْكُ}: جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ.
قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لا مَحَلَّ لها كالتي قبلها. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو له مُلك. والثالث: أنها حالٌ من الضمير في {له} فالعامل فيها الاستقرار، ولم يُذْكَرْ مفعولا الإِحياءِ والإِماتةِ؛ إذ الغَرَضُ ذِكْرُ الفعلَيْنِ فقط.
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)}.
قوله: {هُوَ الأول والآخر}: قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: ما معنى الواوِ؟ قلت: الواوُ الأولى معناها الدلالةُ على أنه الجامعُ بين الصفَتَيْن الأوَّليَّةِ والآخِريَّةِ، والثالثةُ على أنه الجامعُ بين الظهورِ والخَفاءِ، وأمَّا الوُسْطى فعلى أنه الجامعُ بين مجموع الصفَتَيْن الأُوْلَيَيْن ومجموعِ الصفَتَيْن الأُخْرَيين.
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)}.
قوله: {تُرْجَعُ الأمور}: قد تقدَّم في البقرة أن الأخَوَين وابنَ عامر يقرؤون بفتح التاء وكسر الجيم مبنيًا للفاعل، والباقون مبنيًا للمفعول في جميع القرآن. وقال الشيخ هنا: وقرأ الجمهور {تُرْجَعُ} مبنيًا للمفعول. والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنيًا للفاعل. وهذا عجيبٌ منه، وقد وقع له مِثْلُ ذلك كما نَبَّهْتُ عليه.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} قد تقدَّم مثلُه في سورة سبأ.
{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}.
قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ}: مبتدأ وخبرٌ، وحالٌ، أي: أيُّ شيءٍ استقر لكم غيرَ مؤمنين؟
وقوله: {والرسول يَدْعُوكُمْ} جملةٌ حاليةٌ من {يُؤمِنون}. قال الزمخشري: فهما حالان متداخلان و{لِتُؤْمنوا} متعلِّقٌ ب {يَدْعو} أي: يدعوكم للإِيمان كقولك: دَعَوْتُه لكذا. ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ للعلةِ، أي: يدعوكم إلى الجنةِ وغفرانِ اللهِ لأجلِ الإِيمانِ. وفيه بُعْدٌ.
قوله: {وَقَدْ أَخَذَ} حالٌ أيضًا. وقرأ العامة: {أَخَذَ} مبنيًا للفاعلِ، وهو اللّهُ تعالى لتقدُّم ذِكْرِه. وأبو عمرو {أُخِذ} مبنيًا للمفعول، حُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به. و{ميثاقَكم} منصوبٌ في قراءة العامةِ، مرفوعٌ في قراءة أبي عمروٍ. و{إنْ كنتم} جوابُه محذوفٌ تقديرُه: فما يَمْنَعُكم من الإِيمانِ. وقيل: تقديرُه: إنْ كنتم مؤمنين لموجِبٍ ما، فهذا هو الموجِبُ. وقدَّره ابنُ عطية: إنْ كنتم مؤمنين فأنتم في رتبةٍ شريفةٍ. وقد تقدَّمَتْ قراءتا {يُنَزَّل} تخفيفًا وتشديدًا في البقرة. وزيد بن علي {أَنْزَل} ماضيًا.
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}.
قوله: {أَلاَّ تُنفِقُواْ} كقوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} [البقرة: 246] فالأصلُ: في أن لا تُنْفِقُوا، فلمَّا حُذِف حرفُ الجرِّ جَرى الخلافُ المشهورُ. وأبو الحسن يرى زيادتَها كما تقدَّم تقريرُه في البقرة.
قوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل الاستقرار ومفعولِه، أي: وأيُّ شيءٍ يمنعُكم من الإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ والحالُ أنَّ ميراثَ السماواتِ والأرضِ له، فهذه حالٌ منافيةٌ لبُخْلِكم.
قوله: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَق} في فاعل {يَسْتوي} وجهان، أظهرُهما: أنه مِنْ أَنْفَق، وعلى هذا فلابد مِنْ حذفِ معطوفٍ يتمُّ به الكلامُ، فقدَّره الزمخشري: لا يَسْتوي منكم مَنْ أنفقَ قبلَ فتحِ مكةَ وقوةِ الإِسلام ومَنْ أنفق مِنْ بعدِ الفتح، فَحَذَفَ لوضوحِ الدلالة. وقَدَّره أبو البقاء (ومَنْ لم يُنْفِق) قال: ودلَّ على المحذوفِ قوله: {مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح} والأول أحسنُ لأنَّ السِّيَاقَ إنما جيء بالآية ليُفرِّق بين المُنْفِقين في زمانَيْنِ. والثاني: أنَّ فاعلَه ضميرٌ يعود على الإِنفاقِ، أي: لا يَسْتوي جنسُ الإِنفاقِ إذ منه ما وَقَعَ قبل الفتح، ومنه ما وَقَعَ بعدَه، فهذان النوعان متفاوتان. وعلى هذا فتكون (مَنْ) مبتدأ و(أولئك) مبتدأٌ ثانٍ و{أَعظَمُ} خبرُه، والجملةُ خبرُ (مَنْ) وهذا ينبغي أن لا يجوزَ البتةَ، وكأنَّ هذا المُعْرِبَ غَفَل عن قوله: {منكم} ولو أعربَ هذا القائلُ {منكم} خبرًا مقدمًا، و(مَنْ) مبتدأ مؤخرًا. والتقدير: مِنْكم مَنْ أنفق من قبلِ الفتحِ، ومنكم مَنْ لم يُنْفِقْ قبلَه ولم يقاتِلْ، وحُذِف هذا لدلالةِ الكلامِ عليه لكان سديدًا، ولكنه سها عن لفظةِ {منكم}.
قوله: {وَكُلًا وَعَدَ الله الحسنى} قراءة العامَّةِ بالنصبِ على أنه مفعولُ مقدمٌ، وهي مرسومةٌ في مصاحفِهم {وكلًا} بألفٍ، وابنُ عامر برفعِه، وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه ارتفعَ على الابتداءِ، والجملة بعدَه خبرٌ، والعائدُ محذوفٌ، أي: وعده اللهُ. ومثلُه:
قد أصبحَتْ أمُّ الخِيار تَدَّعِي ** عليَّ ذَنْبًا كلُّه لم أَصْنَعِ

برفع (كلُّه)، أي: لم أَصْنَعْه. والبصريُّون لا يُجيزون هذا إلاَّ في شعرٍ كقوله:
وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ** بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطلِ

وقد نقل ابن مالك الإِجماعَ من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إنْ كان المبتدأ {كلًا} أو ما أشبهَها في الافتقار والعمومِ، وهذا لم أَرَه لغيره. وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ ذلك في سورة المائدةِ عند قوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] ولم يُرْوَ قوله: (كلُّه لم أصنَع) إلاَّ بالرفعِ مع إمكانِ أَنْ ينصبَه فيقول: (كلَّه لم أصنعِ) مفعولًا مقدَّمًا. قال أهل البيان: لأنه قصد عمومَ السلبِ لا سَلْبَ العمومِ، فإن الأولَ أبلغُ، وجعلوا من ذلك قوله عليه السلام: «كل ذلك لم يكنْ» ولو قال: (لم يكن كلُّ ذلك) لكان سَلْبًا للعُموم، والمقصودُ عمومُ السَّلْب.
والثاني: أن يكونَ (كل) خبَر مبتدأ محذوفٍ، و{وَعَدَ الله الحسنى} صفةٌ لما قبله، والعائدُ محذوف، أي: وأولئك كلٌّ وعدَه اللهُ الحسنى. فإن قيل: الحذفُ موجودٌ أيضًا وقد عُدْتم لِما فرَرْتُمْ منه. فالجوابُ: أنَّ حَذْفَ العائدِ من الصفة كثيرٌ بخلاف حَذْفِه من الخبرِ. ومِنْ حَذْفِه من الصفة قوله:
وما أَدْري أغَيَّرهم تَناءٍ ** وطولُ العَهْدِ أم مالٌ أصابوا

أي أصابوه، ومثله كثيرٌ. وهي في مصاحفِ الشامِ مرسومةٌ {وكلٌّ} بدون ألف، فقد وافق كلٌّ مصحفَه. و{الحُسْنى} مفعولٌ ثانٍ، والأولُ محذوفٌ على قراءة الرفعِ، وأمَّا النصبُ فالأولُ مقدَّمٌ على عامِله.
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}.
قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ}: قد تقدَّم بحمدِ الله هذا وما بعده مستوفىً، واختلافُ القراء فيه في سورةِ البقرة. وقال ابن عطية هنا: الرفعُ على العطفِ أو القطعِ والاستئنافِ. وقرأ عاصم {فيضاعِفَه} بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام. وفي ذلك قَلَقٌ، قال أبو علي: لأنَّ السؤالَ لم يقَعْ عن القَرْضِ، وإنما وقع عن فاعلِ القَرْضِ، وإنما تَنْصِبُ الفاءُ فعلًا مردودًا على فعلِ مُسْتَفْهَمٍ عنه، لكن هذه الفِرْقَةَ حَمَلَتْ ذلك على المعنى، كأنَّ قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِض} بمنزلةِ قوله أيقرِضُ اللَّهَ أحدٌ. انتهى. وهذا الذي قاله أبو علي ممنوعٌ، ألا ترى أنه يُنْصَبُ بعد الفاءِ في جواب الاستفهام بالأسماءِ، وإن لم يتقدَّم فعلٌ نحو: (أين بيتُك فأزورَك) ومثلُ ذلك: (مَنْ يَدْعوني فأستجيبَ له) و(متى تسير فأرافِقك) و(كيف تكونُ فأصْحَبَكَ) فالاستفهام إنما وقع عن ذاتِ الداعي وعن ظرفِ الزمان وعن الحال، لا عن الفعل. وقد حكى ابنُ كيسانُ عن العرب: أين ذَهَبَ زيدٌ فَنَتْبَعَه، ومَنْ أبوك فنُكْرِمَه.
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}.
قوله: {يَوْمَ تَرَى}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه معمولٌ للاستقرار العاملِ في {لهم أجرٌ}، أي: استقرَّ لهم أجرٌ في ذلك اليوم. الثاني: أنه مضمرٌ، أي: اذكرْ فيكون مفعولًا به. الثالث: أنه يُؤْجَرون يومَ ترى فهو ظرفٌ على أصلِه. الرابع: أنَّ العاملَ فيه {يَسْعى}، أي: يَسْعى نورُ المؤمنين والمؤمناتِ يومَ تراهم، هذا أصلُه. الخامس: أنَّ العاملَ فيه {فيضاعفَه} قالهما أبو البقاء.
قوله: {يسعى} حالٌ، لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّة، وهذا إذا لم يَجْعَلْه عامِلًا في {يوم} و{بين أيديهم} ظرفٌ للسَّعْي، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالًا مِنْ {نورُهم}.
قوله: {وَبِأَيْمَانِهِم}، أي: وفي جهةِ أيمانهم. وهذه قراءة العامَّةِ أعني بفتح الهمزةِ جمع يَمين. وقيل: الباءُ بمعنى {عن}، أي: عن جميعِ جهاتِهم، وإنما خَصَّ الأَيمانَ لأنها أشرفُ الجهاتِ. وقرأ أبو حيوة وسهلُ بن شعيب بكسرِها. وهذا المصدرُ معطوفٌ على الظرفِ قبلَه.
والباءُ سببيةٌ، أي: يسعى كائنًا وكائنًا بسبب إيمانهم. وقال أبو البقاء تقديرُه: وبإيمانِهم استحقُّوه، أو بإيمانهم يُقال لهم: بُشْراكم.
قوله: {بُشْرَاكُمُ} مبتدأٌ، و{اليومَ} ظرفٌ. و{جناتٌ} خبرهُ على حذفِ مضافٍ، أي: دخولُ جناتٍ. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقول مقدر، وهو العاملُ في الظرفِ كما تقدَّم. وقال مكي: وأجاز الفراءُ نصبَ {جنات} على الحال ويكون {اليومَ} خبرَ {بُشْراكم} قال: وكونُ {جنات} حالًا لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فِعْل. وأجاز أَنْ يكونَ {بُشْراكم} في موضع نصبٍ على: يُبَشِّرونهم بالبُشرى، وتُنْصَبُ {جنات} بالبُشْرى. وكلُّه بعيدٌ لأنه لا يُفْصَلُ بين الصلةِ والموصولِ باليوم. انتهى. وعجيبٌ من الفراء كيف يَصْدُرُ عنه ما لا يُتَعَقَّل، ولا يجوزُ صناعةً، كيف تكون {جنات} حالًا وماذا صاحبُ الحال؟.
{يَوْمَ يَقول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)}.
وقوله: {يَوْمَ يَقول}: بدلٌ مِنْ {يومَ ترى} أو معمولٌ لـ: (اذْكُر). وقال ابن عطية: ويظهرُ لي أنَّ العاملَ فيه {ذلك هُوَ الفوز العظيم} ويجيء معنى الفوز أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمةِ يومَ يَعْتري المنافقين كذا وكذا؛ لأنَّ ظهورَ المرءِ يومَ خمولِ عَدُوِّه ومُضادِّه أبدعُ وأفخمُ. قال الشيخ: وظاهرُ كلامِه وتقديرِه أنَّ {يومَ} معمولٌ للفوز. وهو لا يجوزُ، لأنه مصدرٌ قد وُصِفَ قبلَ أَخْذِ متعلَّقاته فلا يجوزُ إعمالُه، فلو أُعْمِل وصفُه لجاز، أي: الذي عَظُمَ قَدْرُه يومَ. قلت: وهذا الذي قاله ابنُ عطية صَرَّح به مكي فقال: و{يومَ} ظرفٌ العاملُ فيه ذلك الفوزُ، أو هو بدلٌ من {اليوم} الأول.
قوله: {خَالِدِينَ} [الحديد: 12] نصبٌ على الحالِ العاملُ فيها المضافُ المحذوف إذ التقديرُ: بُشْراكم دخولُكم جناتٍ خالدين فيها، فحذف الفاعلَ وهو ضميرُ المخاطبِ، وأُضيف المصدرُ لمفعولِه فصار: دخولُ جنات، ثم حُذِف المضافُ وقام المضافُ إليه مَقَامَه في الإِعراب، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ {بُشْراكم} هو العاملَ فيها؛ لأنه مصدرٌ قد أُخْبر عنه قبل ذِكْرِ متعلَّقاتِه، فيلزَمُ الفصلُ بأجنبي. وظاهرُ كلامِ مكي أنه عاملٌ في الحالِ فإنَّه قال: {خالدين} نصبٌ على الحالِ من الكاف والميم. والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحِبها فَلَزِمَ أَنْ يكونَ {بُشْراكم} هو العاملَ، وفيه ما تقدَّمَ من الفصلِ بينَ المصدرِ ومعمولِه.
قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} اللامُ للتبليغ. و{انْظُرونا} قراءة العامة: {انظرونا} أَمْرًا من النظر. وحمزة {أَنْظِرونا} بقطع الهمزة وكَسْر الظاء من الإِنْظار بمعنى الانتظار، أي: انتظرونا لِنَلْحَقَ بكم فنستضيْءَ بنورِكم. والقراءة الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى هذه إذ يقال: نَظَره بمعنى انتظره، وذلك أنه يُسْرَعُ بالخُلَّصِ إلى الجنَّة على نُجُبٍ، فيقول المنافقون: انتظرونا لأنَّا مُشاة لا نَسْتطيع لُحوقَكم. ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ النظر وهو الإِبصارُ لأنَّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوهِهم فيضيءُ لهم المكانُ، وهذا أليقُ بقوله: {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} قال معناه الزمخشري. إلاَّ أنَّ الشيخ قال: إنَّ النظرَ بمعنى الإِبْصار لا يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر، إنما يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر، إنما يتعدَّى ب (إلى).
قوله: {وَرَاءَكُمْ} فيه وجان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ ب ارْجِعوا على معنى: ارْجِعوا إلى الموقفِ، إلى حيث أُعطِينا هذا النورَ فالتمِسوه هناك ممَّنْ نقتبس، أو ارْجِعوا إلى الدنيا فالتمِسوا نورًا بتحصيلِ سببِه وهو الإِيمانُ، أو فارْجِعوا خائبين وتَنَحَّوْا عنا فالتمسُوا نورًا آخرَ، فلا سبيلَ لكم إلى هذا النورِ. والثاني: أنَّ (وراءكم) اسمٌ للفعلِ فيه ضميرُ فاعلٍ، أي: ارْجِعوا ارْجعوا، قاله أبو البقاء، ومنع أَنْ يكونَ ظَرْفًا لـ: ارْجِعوا قال: لقلةِ فائدتِه لأنَّ الرجوعَ لا يكونُ إلاَّ إلى وراء.
وهذا فاسدٌ؛ لأنَّ الفائدةَ جليلةٌ كما تقدَّم شَرْحُها.
قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} العامَّةُ على بنائِه للمفعول. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ يجوزُ أَنْ يكونَ {بسورٍ} وهو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ الظرفَ. وقال مكي: الباءُ مزيدةٌ، أي: ضُرِب سورٌ. ثم قال: والباءُ متعلِّقةٌ بالمصدر، أي: ضربًا بسُور. وهذا متناقضٌ، إلاَّ أَنْ يكونَ قد غُلِط عليه من النُّسَّاخ، والأصل (أو الباءُ متعلقةٌ بالمصدر)، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الظرفُ. وعلى الجملةِ هو ضعيفٌ.
والسُّور: البناءُ المحيطُ. وتقدَّمَ اشتقاقُه أولَ البقرةِ.
قوله: {لَّهُ بَابٌ} مبتدأ وخبرٌ في موضع جرٍّ صفةً لـ: سُوْر.
قوله: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ في موضعِ جرٍّ صفةً ثانيةً لـ: (سُوْر)، ويجوز أن تكونَ في موضع رفعٍ صفةً لـ: {بابٌ}، وهو أَوْلَى لقُرْبِه. والضميرُ إنما يعود على الأَقْرب إلاَّ بقرينةٍ.
وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير {فَضَرَبَ} مبنيًا للفاعل وهو اللهُ أو المَلَكَ.
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)}.
قوله: {يُنَادُونَهُمْ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا من الضميرِ في {بَيْنهم} قاله أبو البقاء، وهو ضعيفٌ لمجيءِ الحالِ من المضافِ إليه في غيرِ المواضعِ المستثناةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً، وهو الظاهرُ.
قوله: {أَلَمْ نَكُن} يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيرًا للنداءِ، وأَنْ يكونَ منصوبًا بقول مقدرٍ.
قوله: {الغرور} قراءة العامَّة بفتح الغَيْن، وهو صفةٌ على فَعول، والمرادُ به الشيطانُ. وقرأ سماك بن حرب {الغُرور} بالضم، وهو مصدرٌ، وتقدَّم نظيرُه.
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}.
قوله: {فاليوم}: منصوبٌ ب {يُؤْخَذُ}. ولا يُبالَى ب {لا} النافيةِ، وهو قول الجمهورِ. وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعَ أخرَ الفاتحةِ أنَّ فيها ثلاثةَ أقوالٍ. وقرأ ابن عامر {تُؤْخَذُ} بالتأنيثِ للفظِ الفِدْية. والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفَصْلِ.
قوله: {هِيَ مَوْلاَكُمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ مصدرًا، أي: ولايتكم، أي: ذاتُ وِلايتكم. وأَنْ يكونَ مكانًا، أي: مكانَ ولايتكم، وأَنْ يكونَ بمعنى أَوْلَى بكم، كقولك: هو مَوْلاه وبئس المصيرُ، أي: هي.